في مواجهة الجوع في ملاوي
* صاحبة السمو الملكي الأميرة هيا بنت الحسين
مارجريتا يوليوس أرملة ترعى طفليها وخمسة أيتام آخرين. ولم تفقد مارجريتا زوجها فحسب بل وفقدت أيضا أربعة من أبنائها، حيث تعيش حالياً مع أطفالها الناجين على المساعدات الغذائية، وأملها الوحيد هو أن يكبر أطفالها ويمنحوا فرصة للدراسة والتعليم.
تقابلت مع هذه المرأة الشجاعة خلال زيارتي إلى وحدة إعادة التأهيل الغذائي في بلانتير بملاوي، هذه التجربة التي غيرت حياتي بالفعل. توجهنا إلى مقاطعة شيرازدولو، إحدى أكثر المقاطعات تضرراً في جنوب البلاد، والتي يساعد برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة فيها أكثر من 225 ألف شخص (نحو 80 بالمئة من السكان).
وهناك زرنا أكبر مستشفى في ملاوي، حيث رأيت الآثار المدمرة التي خلفها الجوع على ملامح الأطفال الصغار، الذين يتعذبون بصمت لعجزهم عن البكاء من شدة الجوع والوهن. وتحدثت مع أمهاتهم اللواتي يشعرن بالعجز أمام مواجهة أنياب الجوع التي تفتك بهذا البلد، بينما يستفحل مرض الإيدز مدمراً نسيج المجتمع هناك.
أول زيارة لملاوي
عندما وقع الإختيار علي لأكون سفيرة النوايا الحسنة لبرنامج الأغذية العالمي في أكتوبر الماضي، سُئلت عن البلد الذي أرغب في زيارته للإطلاع على مشاريع البرنامج فيه. وللأسف فالجوع منتشر في شتى أنحاء العالم ولائحة الإختيار طويلة، إلا إنني اخترت أن أزور ملاوي لأرى بنفسي ما آلت إليه الأوضاع في بلد عرف بجمال طبيعته، لكنه اليوم يصارع الجفاف والفيضانات ووباء الإيدز الذين أقحموا أكثر من خمسة ملايين شخص في معركة من اجل البقاء.
وخلال زيارتي تقابلت أيضاً مع جو موسو، وهو أب لثمانية أطفال ويحمل فيروس نقص المناعة المكتسبة الذي أقعدة عن الفلاحة والقدرة على جمع المحصول لإطعام عائلته، مما اضطرهم للإعتماد على مساعدات البرنامج. وعلى الرغم من عجزه، إلا أنه مصمم على مواجهة هذه الأوضاع حيث أصبح من النشطاء العاملين على توعية الشباب ضد مخاطر الإيدز وعلى تحريك مشاعر المجتمع لسماع نداء المعانين من هذا المرض أمثاله.
أسوأ موجة جفاف
لقد أصبحت قصصهم بكل أسى القصص السائدة في هذا البلد، ففي العام الماضي صارعت ملاوي أسوأ موجة جفاف أصابتها منذ أكثر من عقد. وتراجع إنتاج الذرة، الغذاء الرئيسي في ملاوي، ليصل إلى 1,4 مليون طن، بينما يتطلب توفر نحو 2,2 مليون طن على الأقل لتفادي وقوع مجاعة.
وجود أناس يعانون من شدة الفقر والجوع ويعيشون في ظل مثل هذه الظروف المأساوية في عصرنا هذا أمر لا يمكن التسامح فيهالأميرة هيا بنت الحسين
ولعل الجفاف الذي تعاني منه ملاوي لم يكن كافياً، فقد اجتاحت هذا الأسبوع الفيضانات أكثر المناطق خصوبة في البلد مشردة نحو 40 ألف شخص، فضلاً عن تدمير المحاصيل والماشية. وتحذر هيئة الأرصاد الجوية في ملاوي السكان من مواجهة فيضانات أخرى بسبب توقع هطول الأمطار الغزيرة مع حلول موسم الخريف في الأسابيع القليلة المقبلة.
يعتمد أكثر من 80 بالمئة من أهالي ملاوي على الزراعة لكسب قوتهم، ولكن في ظل الجفاف والفيضانات التي تجتاح البلد حالياً، قد لا يعيش العديد منهم ليروا موسم الحصاد في شهر أبريل المقبل. وفي محاولات يائسة لإطعام عائلاتهم، باع المزارعون ممتلكاتهم الضئيلة مثل صحون الطعام والماشية ومعدات الزراعة لقاء الطعام الذين هم بأمس الحاجة إليه.
تحت خط الفقر
عاماً تلو عام، تتعاقب الأزمات وتستمر في تمزيق هذا البلد، ويرزخ بالفعل أكثر من 65 بالمئة من السكان تحت خط الفقر مما يجعل ملاوي أحد أفقر بلدان العالم، الذي يعيش فيه أغلبية السكان على أقل من دولار واحد يوميا.
ومع استمرار المشاكل الغذائية والكوارث الطبيعية التي تجتاح هذا البلد، ابتليت ملاوي أيضا بتفشي مرض الإيدز حيث أصبحت إحدى أكثر البلدان تأثراً بكثرة انتشار هذا الوباء، الذي دمر فئة البالغين وتركها في عجز في أعداد المزارعين والمدرسين والممرضات وغيرهم من العمالة المنتجة. وتزداد أيضا في ملاوي أعداد الأيتام البائسين والأسر التي يعولها أطفال يكافحون من اجل البقاء على قيد الحياة.
إن وجود أناس يعانون من شدة الفقر والجوع ويعيشون في ظل مثل هذه الظروف المأساوية في عصرنا هذا أمر لا يمكن التسامح فيه، هذا لأنه لا يجب أن يكون أصلاً.
عجز التمويل
هؤلاء الأطفال الذين رأيتهم يقاتلون من أجل الحياة، والأمر الوحيد الذي يحول دون هلاكهم هو وجبة غذائية تعجز أمهاتهم عن توفيرها. المشكلة واضحة وحلها في غاية البساطة. لكن يواجه برنامج الأغذية العالمي عجزا في التمويل يصل إلي عشرين مليون دولار لتعزيز عملياته الإنسانية في ملاوي حتى شهر يونيو المقبل، إلى جانب الحاجة إلى السلع الأساسية مثل خليط الذرة والصويا وزيت الطعام لمساعدة السكان على تجاوز أزمة الجوع للأشهر القادمة.
عندما تقف وجهاً لوجه مع الجوع، تجده أفظع سفاح يمكن لك أن تتخيلهالأميرة هيا بنت الحسين
لعل تجربتي الرياضية، التي يتعلم فيها المرء تحدي نفسه وتخطي حدودها، قد علمتني أننا كبشر لسنا فقط مهيئون لمواجهة التحديات، بل أيضا للتغلب عليها. ولنقوم بذلك يجب أن ننعم بقوة الجسد... وهذا يتطلب على الحد الأدنى أن نأكل! عندما تقف وجهاً لوجه مع الجوع، تجده أفظع سفاح يمكن لك أن تتخيله.
قال لي بعض السكان الذين تقابلت معهم في ملاوي أنهم يضعفون أمام مواجهة التحديات اليومية التي تقابلهم. لم يفلت أحدا منهم من الوقوع في براثن الجوع—المزارعون والمدرسون والعمال والأطباء والأمهات والأطفال—جميعهم يعانون من الجوع الذي أصبح بشكل مأساوي جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
بإمكاني أن أوصل أصواتهم الصامتة إلى العالم، لكن على العالم أن يساعدهم على مواجهة وتخطي التحديات العاتية التي تجابههم باستمرار.