Skip to main content

من هو المحظوظ في غزة؟

عندما التقيت أم روبين، وهي أم فلسطينية لخمسة أطفال من بلدة بيت لاهيا في قطاع غزة، قالت لي إنها ذات مرة اعتبرت نفسها محظوظة. زوجها يعمل في إسرائيل مما وفر للأسرة دخلا مستقرا. والواقع أن الحياة كانت قد عادت لطبيعتها نسبيا، فالأطفال كانوا يذهبون إلى المدرسة، وبعد سداد جميع النفقات المنزلية كان يتوفر قدر كاف من المال يمكن إنفاقه لشراء حلي ذهبية في بعض المناسبات...

بقلم أرنولد فيركن *

عندما التقيت أم روبين، وهي أم فلسطينية لخمسة أطفال من بلدة بيت لاهيا في قطاع غزة، قالت لي إنها ذات مرة اعتبرت نفسها محظوظة. زوجها يعمل في إسرائيل مما وفر للأسرة دخلا مستقرا. والواقع أن الحياة كانت قد عادت لطبيعتها نسبيا، فالأطفال كانوا يذهبون إلى المدرسة، وبعد سداد جميع النفقات المنزلية كان يتوفر قدر كاف من المال يمكن إنفاقه لشراء حلي ذهبية في بعض المناسبات.

ولكن منذ خمس سنوات أغلقت إسرائيل معبر اريتز في وجه العمال الفلسطينيين متذرعة بدواع أمنية بعدما تعثرت عملية السلام مع الجانب الفلسطيني. ومنذ ذلك الوقت صارت الحياة سلسلة صعبة من المشقات.

وبالرغم من أنها لم تبلغ سوى 28 عاما من العمر، إلا أن الإجهاد والقلق حفرا تجاعيد عديدة في وجهها الشاب. وبات زوجها بين صفوف العاطلين عن العمل والمحبطين الذين يتزايد عددهم في غزة. وحتى يتسنى للأسرة أن توفر طعامها على مدى السنوا ت الخمس الماضية، كان عليها أن تبيع ممتلكاتها ثم تنفق مدخراتها. وأخيرا طرحت أم روبين حليها التي تعتز بها للبيع.

مشروع صغير

وبذكاء، استخدمت أم روبين كل الأموال المتحصلة من بيع الحلي لشراء بقرة، وبدأت مشروعا صغيرا لمنتجات الألبان. وبينما كانت الفكرة صائبة، إلا أن التوقيت كان، لسوء الحظ، خاطئا.

إن المساعدات الإنسانية لا يمكن أبدا أن تحل محل الأنشطة الاقتصادية السليمة، وهذه الأنشطة بدورها لا يمكن استمرارها من دون حل للمشكلة الفلسطينية التي يتفق الجميع على أنها سياسية في جوهرها
وكان تكرار إغلاق معبر كارني وهو أحد المعابر التجارية إلى غزة خلال العام الماضي يعني أن علف الماشية لم يكن متوفرا طول الوقت وتصاعدت أسعاره بشدة. ولجأت ام روبين إلى الاستدانة من أجل أن تحافظ على استمرار مشروعها الصغير.

وبعد أن أعيتها الحيل، سعت إلى طلب المساعدة من وزارة الزراعة، التي أرشدتها إلى الاشتراك في مشروع ينفذه برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة في غزة.

ويقوم البرنامج بتوزيع حصص غذائية على نساء مثل أم روبين حتى يتسنى لهن استخدام مدخراتهن (التي كنَّ سينفقنها على الغذاء اللازم لأسرهن) لشراء المستلزمات الأساسية لضمان استمرار مشاريعهن الصغيرة. وفي منطقة بيت لاهيا وحدها، هناك حوالي 500 أسرة تستفيد من هذا المشروع.

محظوظة ولكن..

وتمكن مشروع أم روبين أخيرا من الانطلاق. ففي خلال فترة وجيزة تمكنت من إنتاج حوالي 400 كيلو من الجبن وغيرها من منتجات الألبان كل شهر مما حقق لها دخلا مناسبا بلغ 763 دولارا. وبدا أخيرا أن إصرارها تكلل بالنجاح. وعاد لها الشعور مرة أخرى بأنها محظوظة.

إلا أنها بعد أن حققت كل هذا، واجهها أسوأ كابوس أَلمّ بها، وهو الاضطرابات فى غزة. فمع توقف العملية السياسية، وما تلاها من تدهور اقتصادي لم يسبق له مثيل، استشرى الإحباط والجوع في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وزاد بعد سوء الأوضاع أن المنافسة السياسية الفلسطينية لم تتوقف عند صندوق الاقتراع، ولكنها انتقلت - وفي أحيان كثيرة - بطريقة عنيفة إلى الشارع.

وقد حملت أنباء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية في وقت سابق من هذا الشهر بارقة أمل، إلا أن كثيرا من الأوضاع السياسية المضطربة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها ما زالت تلقي بظلالها الكثيفة على هذا الأمل.

وليست هناك وصفة لنمو اقتصاد في ظل مثل هذه الظروف المضطربة. فالمستثمرون يفتقرون إلى الثقة والمستهلكون المحتملون ليس لديهم أموال، والمشروعات الصغيرة التي بعثت الأمل في أوقات اليأس تموت الآن موتا بطيئا مع ارتفاع تكاليف التشغيل. وبدلا من شراء الطعام، صار الفلسطينيون الفقراء يعتمدون الآن وربما أكثر من أي وقت مضى على الهبات التي يقدمها المجتمع الدولي.

إن المساعدات الإنسانية لا يمكن أبدا أن تحل محل الأنشطة الاقتصادية السليمة، وهذه الأنشطة بدورها لا يمكن استمرارها من دون حل للمشكلة الفلسطينية التي يتفق الجميع على أنها سياسية في جوهرها.

المعونات الغذائية وحدها لا تكفي

ومن الواضح أن استمرار ضعف الاقتصاد يؤدي إلى هبوط ملحوظ في مستويات المعيشة. ووفقا لمسح أجراه مؤخرا برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة، تبين أن 84 في المئة من السكان في غزة، و60 في المئة من السكان في الضفة الغربية اضطروا إلى تخفيض نفقاتهم المعيشية بحلول نهاية 2006، وبيع ممتلكاتهم من أجل تأمين الاحتياجات الضرورية ومنها الغذاء.

وقد حذر التقرير أيضا من أن ما يقدر بنسبة 46 في المئة من الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عاجزون أو على وشك أن يعجزوا عن توفير كل احتياجاتهم الغذائية الأساسية. وفي غزة وحدها، ترتفع هذه النسبة إلى 67 في المئة، مما يعني أن حوالي واحد من بين كل سبعة أشخاص في غزة يقترب من المعاناة من حالة تعرف على المستوى العالمي ببساطة بأنها «الجوع».

إن المعونات الغذائية وحدها لا يمكن أن تساعد أهالي غزة. إن توفير المناخ الآمن من دون توترات سياسية بين الفلسطينيين وحده هو الذي يمكن أن يعيد قدرا من الثقة إلى الاقتصاد، ويظل التوصل إلى اتفاق سياسي مقبول من كل من الفلسطينيين وإسرائيل الحل الوحيد من أجل أن يعود الأمل الحقيقي والدائم لشعب غزة.

أم روبين تشعر باليأس. وما يقلقها هو أن تضطر إلى بيع بقرتها مثلما سبق أن باعت حليها، كملاذ أخير لإطعام أسرتها.

ولكن السؤال الذي بات يؤرقها هو ما الذي سيأتي به المستقبل؟ ولكنها عاجزة عن الإجابة.

أرنولد فيركن