برنامج الأغذية العالمي: كلمة المدير التنفيذي خلال احتفالية جائزة نوبل للسلام
في العاشر من إبريل عام 1815، وعلى بعد 6000 ميلا من هنا، اندلع بركان في جزيرة بإندونيسيا، نجم عنه انبعاث كميات كبيرة من الرماد في الجو تأثر به العالم بأكمله، وجاءت السنة التالية عام 1816، بدون فصل الصيف.
هطلت أمطار متواصلة هنا في النرويج، وكذلك في بريطانيا والصين والولايات المتحدة، وبلغ سمك الجليد 20 بوصة في بوسطن، وفسدت المحاصيل، ونفقت الماشية، وحل الجوع بالناس، وانتشرت السرقات وأعمال نهب وحرق المدن، تدفق اللاجئين، وانتشر وباء التيفوس، واستغرقت عمليات الإصلاح عدة عقود من الزمن، ومات الملايين من الناس في أماكن مثل هذه، وقعت أسوأ مجاعة في القرن التاسع عشر، لم يكن يتوقعها أحد.
لم يتوقعها أحد. في المجاعات، لا أحد يتحرك حتى يكون الأوان قد فات. فأنا هنا لأقول: هذه المرة نرى ذلك قادمًا، واضحًا مثل ضوء النهار، وسيؤثر علينا جميعًا. ما لم نتحرك.
أوجه الشكر لأصحاب الجلالة أصحاب وأصحاب السمو الملكي أعضاء لجنة نوبل النرويجية المحترمين والزملاء حول العالم. حيث ذكرتم في إعلانكم، أننا نحارب الجوع ونعمل على تحسين الظروف من أجل السلام في المناطق المتأثرة بالصراعات. ومن أهم أولوياتنا أن نبذل كل جهودنا لمنع استخدام الجوع كسلاح للحرب والصراع. فهذا هو هدف برنامج الأغذية العالمي: إنقاذ الأرواح وتغيير الأوضاع المعيشية.
أرجو أن تتخيلوا أنه يقف معي على هذه المنصة 20 ألف من صانعي السلام العاملين لدى برنامج الأغذية العالمي، الذين يضحون بحياتهم كل يوم من أجل هذه الرسالة، ونذكر في هذه الحظة الذين ماتوا في سبيل تحقيق هذه الرسالة لصنع السلام من خلال توفير الغذاء. ونتوجه بالشكر، نيابة عنا جميعا وعن كل شركاء الأمم المتحدة، إلى لجنة نوبل النرويجية على هذا التكريم العظيم.
إننا نؤمن جميعاً أن الغذاء يمثل طريقا لإرساء السلام، فما هي أكبر مشكلة تواجه البشرية؟ ما هو أكبر مهدد للسلام من وجهة نظرنا؟
تشكل لدى رجال ونساء برنامج الأغذية العالمي وجهة نظر فريدة، بفضل تعاملهم ليلا ونهارا مع 115 مليون شخص في 80 دولة. لقد تعلمنا أن أولئك الذين يُنظر إليهم، من وجهة نظر العالم، على أنهم "فقراء" يمتلكون أشياء لا يملكها "أغنياء" هذا العالم، بينما الكثير منا الذين يعتبرون أغنياء، هم في واقع الأمر يفتقرون الأشياء الأكثر أهمية.
أكبر مشكلة هي مسألة الانقسامات، المعروفة بأسماء عدة منها: الانفصال والاستقطاب والتحالف والتميز والكراهية والحروب. اللفظ الأكثر توضيحاً للانقسامات الآن هو الفجوة بين أصحاب المليارات، الذين كسبوا أكثر من 1.8 تريليون دولار أمريكي في أثناء فترة انتشار هذه الجائحة، مقابل مئات الملايين من البشر الذين يبيتون جياعا كل ليلة. أسمحوا لي أذكر لكم بشيء من التفصيل حقائق عن مشكلة الجوع، كما هو عليه الوضع الآن، هناك 811 مليون شخص يعانون الجوع المدقع، و283 مليون شخص يعانون من نقص الغذاء في طريقهم للإصابة بالمجاعة، بما فيهم 45 مليون شخص في 43 دولة حول العالم في حالة جوع، بتعبير آخر، المجاعة قاب قوسين أو أدني منهم.
بلاد مثل أفغانستان ومدغشقر وميانمار وجواتيمالا وأثيوبيا والسودان وجنوب السودان وموزمبيق والنيجر وسوريا ومالي وبوركينا فاسو والصومال وهايتي وغيرها الكثير والكثير. فالعالم الآن يعاني من المجاعة، ولكن متى انتشرت المجاعة في العديد من الأماكن في وقت واحد؟ ولماذا؟ لثلاثة أسباب: أولاً الصراعات التي أحدثها الإنسان، فهناك العشرات من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية لم تضع أوزارها، واستخدام التجويع كسلاح من أجل تحقيق أغراض سياسية وعسكرية.
ثانياً التغيرات المناخية أو الصدمات المناخية، فقد نتج عن الفيضانات والجفاف وانتشار الجراد والتغيير السريع في حالة الطقس فساد عريض للمحاصيل في أنحاء العالم. ثالثاَ كوفيد-19 تسببت هذه الجائحة الفيروسية في ظهور أزمة جوع ثانوية، أسوأ بكثير من الأول، فالإغلاقات أعاقت سبل العيش، وبالتالي توقفت عملية نقل الغذاء، وارتفعت الأسعار. والنتيجة النهائية هي أن فقراء العالم انقطعت بهم سبل البقاء على قيد الحياة.
كان التأثير المضاعف لفيروس كوفيد مدمرًا للاقتصاد العالمي. فأثناء هذه الجائحة، تلاشت عوائد قدرها 3.7 تريليون دولار أمريكي، أغلبها متعلقة بالفقراء، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وزادت تكلفة شحن المواد الغذائية، على سبيل المثال، 300-400 %. وأزداد الأمر سوء في الدول ذات الدخول المنخفضة والصراعات. فعلى سبيل المثال، في حلب بسوريا، التي عدت منها لتوي، أصبحت أسعار المواد الغذائية سبعة أضعاف ما كانت عليه منذ سنتين. فالتأثير المشترك للثلاثة عوامل، وهي الصراعات والتغيير المناخي وجائحة كورونا، نتج عنه أزمة لم يسبق لها مثيل.
ماذا نفعل حيال ذلك؟ أول شيء يتعين علينا القيام به هو العودة لقيمنا الأخلاقية. لطالما كانت أعلى معايير الإنسانية هي القاعدة الذهبية. إنها جزء من جميع الأديان والثقافات - وهي أساس ثقافة برنامج الأغذية العالمي كل يوم.
لقد تعلمت ذلك عندما كنت طفلاً كما قال يسوع: "اصنع للآخرين كما تحب أن يصنعوا لك" أو "حب لجارك ما تحبه لنفسك".
لقد تعلمت أن الترجمة المثلى للعبارة المأخوذة من العبرية القديمة هي: "أحب جارك كحبك لنفسك." إن رؤية جاري على أنه مساوي لي يغير كل شيء.
إذا أحببت جاري كحبي لنفسي، فستتلاشى العنصرية والتمييز على أساس الجنس وكل "مذهب" آخر داعي للانقسام. وحسب تفكيري، فإننا متساوون. فكل واحد منا له مميزاته ومع ذلك فنحن متساوون.
بغض النظر عن آرائك الدينية أو وجهات نظرك حول الخلق، يمكننا جميعًا الاتفاق على أهمية كوننا سواسية من الناحية العملية، والأهم من ذلك: التعامل بمبدأ المساواة.
لقد كان يومًا طويلًا للغاية قضيناه في أنقاض اليمن التي مزقتها الحرب. فقد كنا في زيارة لأحد مستشفيات الأطفال، وفي إحدى الغرف، رأيت قدمين صغيرين يتمددان من تحت الأغطية. وعندها، فكرت في ابنتي حينما كانتا صغيرتين وقُلت لنفسي: "سأداعب تلك الأقدام الصغيرة."
لقد فعلت، إلا أن الطفلة لم تضحك ولم تبتسم، حتى أنها لم تتحرك، كل ما فعلته هو أنها حدقّت بعينيَن شاغرتَين. كان الأمر أشبه بمداعبة شبحٍ.
ثم خرجت من الغرفة، وبكيت. الوقت متأخر للغاية، فقد وصلنا هناك بعد فوات الأوان.
فإخفاقنا في رؤية هذه الفتاة الصغيرة كجارتنا، أختنا التي تتساوى معنا، قد خلق جميع تبعات حياتها المأساوية: الحرب والمجاعة وتلك العيون الخاوية. وبالنيابة عنها، يجب عليّ التعبير عن الحاجة الملحة لهذه الساعة: التهديد العالمي بالمجاعة للملايين والملايين من إخواننا وأخواتنا وجيراننا وأقراننا المساوين لنا.
لقد سمعتم بهذه الحقيقة مني في وقت سابق: 45 مليون شخص في 43 دولة على شفا المجاعة، إلا أنه في مقدورنا إنقاذهم.
فهُم يعانون بالفعل من الجوع الشديد، كما أنهم على وشك الوقوع في كارثة لو حدثت مشكلة واحدة متعلقة بالمناخ، أو مناورة عسكرية واحدة، أو ارتفاع آخر في الأسعار، أو توقف واحد في سلسلة الإمداد.
وهذا هو السبب في أنني أطلقت نداء عاجل لمرة واحدة للحصول على 6,6 مليار دولار أمريكي من مليارديرات العالم. فهل هذا مبلغ كبير جدًا ليُطلب من هؤلاء الذين حصدوا 1,8 تريليون إضافية خلال الجائحة؟
فالأخبار السعيدة هي أنه لدينا أنظمة مؤكدة موضوعة لدى برنامج الأغذية العالمي لمدهم بالغذاء. فقد وصلنا العام الماضي إلى 115 مليون طفل وامرأة ورجل حيث تفادينا وقوع مجاعة. إلا أن الأخبار السيئة الآن هي أنه مع تكرار مداهمة فيروس كوفيد، ومع آثار انتشاره المدمرة، فنحن نواجه عجزاً تمويلياً يزيد عن 6 مليارات دولار أمريكي، حيث نحتاجها لبلوغ جميع الأشخاص الذين يواجهون خطر المجاعة. إننا نحتاج لهذه الأموال لمجرد النهوض ببرامجنا لتلبية هذه الاحتياجات المتزايدة.
إذا لم تساعد جارك، أي قرينك بطيب خاطر من قلبك، فساعده من منطلق مصلحتك الأمنية الوطنية ومصلحتك المالية الذاتية. فمثال على ذلك: يمكننا دعم الجوعى في سوريا بالغذاء مقابل مبلغ يقل عن 50 سنتًا في اليوم. بينما يبلغ إجمالي تكلفة دعم هذا الشخص ذاته في ألمانيا حوالي 70 دولارًا أمريكيًا في اليوم. فقد بلغت تكلفة الدعم لمدة خمسة أعوام لمليون لاجئ سوري في ألمانيا 125 مليار دولار أمريكي (أي 70 دولارًا أمريكيًا في اليوم مقابل 50 سنتًا). فأيهما أفضل؟
إذا لم نتجنب حدوث المجاعة الآن، فسيؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار البلدان وهجرات جماعية، مما سيرفع من حجم الخسائر وتزداد تكلفة التصدي لها بشكل لا يمكن تصوره.
فمن فوق هذه المنصة، منذ 42 عامًا ماضية، قالت الأم تريزا: "الفقراء أشخاص رائعون للغاية...الفقراء أشخاص عظيمون جدًا. فهُم يمكن أن يعلموننا الكثير من الأشياء الجميلة....الفقراء يعطوننا أكثر بكثير مما نقدم لهم...فهُم هؤلاء الأشخاص الأقوياء الذين يعيشون يومًا بعد يوم دون طعام....فنحن لدينا الكثير لنتعلم منهم."
وهذا هو السبب في أن دافعنا لمساعدة الفقراء يجب أن يتجاوز المصلحة الشخصية. فالفقراء يمكن أن يعلموا الأغنياء الذين يعيشون بيننا أشياءً لا يمكن أن نتعلمها بأي طريقة أخرى.
منذ عامين ماضيين، أُجريت معي مقابلة شخصية بأحد البرامج التلفزيونية وعقب انتهائنا منها، قال لي مُقدم البرنامج: "إنك تعمل أعظم عمل في العالم، ألا وهو إنقاذ أرواح الملايين من الناس."
قُلت له: "نعم، بالطبع أفعل ذلك. إلا أنني سأخبرك بأمر لم تفكر فيه وهو ما سيزعجك: إنني لا أخلد إلى النوم وأنا أفكر في الأطفال الذين أنقذناهم، ولكنني أذهب إلى النوم باكيًا على الأطفال الذين لم نتمكن من إنقاذهم. وحينما لا يكن لدينا المال الكافي وما نحتاج إليه، فيجب علينا أن نقرر أي الأطفال يأكلون وأي الأطفال لا يأكلون: أي الأطفال سيتلقون الدعم وأيهم لن يتلقوه؟ كيف تحب وظيفة كهذه؟"
فضلًا لا تطلبوا منا اختيار من يأكل ومن لا يأكل. لذا، دعوني أختم بأربعة إجراءات بشأن الكيفية التي يمكن لنا من خلالها أن نحب جيراننا.
1. قادة العالم في أمريكا وفي الصين وروسيا والهند ودول الخليج والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وفي أي مكان آخر: نحن نحتاج منكم استخدام سُلطاتكم وإيقاف جميع هذه الحروب البشعة. فتكلفة العنف العالمي والصراعات العالمية تبلغ 15 تريليون دولار أمريكي كل عام. قد نتمكن من حل جميع المشكلات على سطح الأرض بهذه النقود.
2. مليارديرات العالم: رجاءً، وفروا لنا 6,6 مليار دولار أمريكي التي نحتاجها لمنع المجاعة الآن، وأنقذوا 45 مليون شخص الآن.
3. وبعد ذلك أيها المليارديرات امنحونا بعض من أفكاركم العبقرية لإيجاد حلول مبتكرة للأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم. فالأعمال الخيرية مهمة، ولكنها لن تكون كافية. إنكم تعلمون كيفية صُنع ثورات في صناعة الهواتف والسيارات والصواريخ وفي البيع بالتجزئة. ساعدونا على إحداث ثورة بشأن كيفية توفير الغذاء على كوكب الأرض.
4. دعونا نُحطم جميع الانقسامات في العالم التي جرت على الطريقة القديمة، بالجلوس سويًا وتقاسم الطعام. إذا كنت أسودًا، فلتكن مع شخص أبيض. وإذا كنت أبيضًا فلتكن مع شخص أسود أو آسيويًا أو لاتينيًا. وإذا كنت ثريًا فلتجلس مع شخص فقير. وإذا كنت ليبراليًا فلتجلس مع شخص محافظ، فهلا فهمتم ما أعني؟
هذه هي الطريقة المُثلى لتعلم كيف نكون أقرانًا ولندرك أن كل إنسان على هذا الكوكب فريدا ورائعا وجميلًا.
وعرفانا لألفريد نوبل، كما هو منقوش على هذه الميدالية...."السلام والأخوة." من أجل أطفال العالم، دعونا نُطعمهم جميعًا.