صوت من سوريا: "طالما كنت أظن أن الحرب هي أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة، ولم أكن أعلم أن الأسوأ لم يحدث بعد."
لا يزال أبو طارق يتذكر بوضوح حياته السابقة التي كانت مفعمة بالبهجة، فقد كان أفراد أسرته يملئون المنزل وكانت مائدتهم عامرة بأصناف الأطعمة الوفيرة لدرجة أنه كان يتصدق ببعضها على المحتاجين.
ويحكي أبو طارق إنه أثناء انتظاره في طابور عند إحدى نقاط توزيع الأغذية التابعة لبرنامج الأغذية العالمي في بلدة المليحة، في الغوطة الشرقية، كان ذهنه شاردًا في مكان آخر. فقد سرح بخياله بعيدًا عن الشوارع الخالية والمباني المهجورة جراء سنوات عديدة من النزاع. إنه يتذكر مرة أخرى ورشة اللحام التي كان يمتلكها حيث كان يقدم الخدمات لزبائنه، إلى جانب رعايته لمزرعته التي كان يكسب منها دخلاً يساعده على إعالة أسرته.
يقول أبو طارق، وهو ينتظر الحصول على المساعدات الغذائية التي أصبحت أسرته تعتمد عليها بصورة شهرية: "لم يخطر ببالي قط أنني سأجلس بهذه الطريقة، مثلما أجلس الآن، في انتظار الحصول على بعض المساعدة."
وُلد أبو طارق في بلدة المليحة، وشاهد، مثله في ذلك مثل العديد من السوريين، بلدته تتحول إلى ساحة للقتال ويتغير مجتمعه إلى الأبد بسبب سنوات النزاع المتواصل. لم تعد معالم مدينة المليحة الآن كسابق عهدها، ولم تعد الأسر التي تسكنها قادرة على التعرف عليها ولم يتبق لديهم سوى بعض الذكريات من حياتهم السابقة، مع إدراكهم بأن إعادة بناء حياتهم ستكون أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
ويوضح أبو طارق، بصوت جهوري، أنه كان ذات يوم يمتلك بفخر ورشة لحام تنتج العديد من النوافذ والأبواب لمنازل البلدة، وكان يمتلك أيضًا أوناشًا ومواشي ومعملًا لمنتجات الألبان. ويضيف قائلًا: "لقد كان دخلي ممتازًا، وكان لدي منزل كبير، وكان يعمل لدي الكثير من العمال، وكنت أقوم كل يوم جمعة بتوزيع الطعام على الفقراء في المدينة لأشكر الله على فضله ونعمته."
لا مجال للعودة للوطن
عندما اندلع النزاع في بلدة المليحة، تأثر المجتمع بأكمله، وتوقفت أعمال التشييد والبناء، ولم يعد بإمكان أبو طارق شراء الحديد الذي يحتاجه لتشغيل ورشته. ولذلك، أغلق ورشته وأصبحت أسرته المكونة من سبعة أفراد تعيش على الأرباح التي يكسبها من عمله في منتجات الألبان. ولكن مع انخفاض الدخول والمدخرات، تعرضت الأسرة لضغوط لم يسبق أن مرت بمثلها من قبل.
ويستطرد أبو طارق قائلًا: "قلبي ينفطر وأنا أرى الجميع، وأسرتي معهم، عاجزين عن شراء احتياجاتهم الأساسية. إننا لم نعد قادرين على تقديم المساعدة والدعم لبعضنا البعض، لقد كان سباقًا من أجل البقاء."
لقد أصبح الأمر واضحًا لأسرة أبي طارق أنه دون توفر الكهرباء ومياه الشرب الآمنة، ومع التعرض لمستويات متزايدة من العنف، فلا مفر من النزوح. وفرت الأسرة عبر معبر آمن، وتركت كل شيء وراءها، يحدوها الأمل في مستقبل أكثر أمانًا.
صدمة العودة للوطن
بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أشهر من النزوح، اتخذت أسرة أبو طارق قرارها الصعب بالعودة إلى الوطن وهي غير واثقة مما يمكن أن تجده من حياتها السابقة. وبمجرد العودة، صُدمت الأسرة عندما شاهدت أطلال ممتلكاتها القديمة. لقد خسرت الأسرة كل ما كانت تمتلكه. فقد دُمر المتجران، وتضرر المنزل تضررًا بالغًا، ونفقت الماشية، ولم يجد أبو طارق ما يصف به هذا الوضع سوى أنه كارثة بمعنى الكلمة.
"لقد تحتم عليَّ أن أكون أقوى من هذه الأزمة، وأن أتحلى بالصبر، وإلا فسيكون مصيري الانهيار، الذي سينتهي على إثره كل شيء."
يقول أبو طارق: "لم تستطع زوجتي احتمال الصدمة وأصيبت بجلطة أدت إلى شلل في الأطراف. وحدث الشيء ذاته مع ابني طارق، لكن الأطباء قالوا إن هناك أملًا في أن يتمكن من المشي مرة أخرى بمساعدة العلاج الطبيعي. لقد كان هذا أسوأ ما أصابني، وتحتم علي أن أكون أقوى من هذه الأزمة، وأن أتحلى بالصبر، وإلا فسيكون مصيري الانهيار الذي سينتهي على أثره كل شئ."
وأضاف: "لقد كنت أظن أن الحرب هي أسوأ ما يمكن أن يحدث في هذه الحياة، غير أنني أدركت أن الأسوأ لم يحدث بعد."
تحديات تواجه عودة الحياة
بدأت الحياة في مدينة المليحة تعود إلى طبيعتها رويدًا رويدًا، وكانت الأسر متفائلة بإمكانية إصلاح ما دمرته الحرب والبدء من جديد. ولكن بلغت أسعار المواد الغذائية الأساسية في الوقت الحالي أعلى معدلاتها على الإطلاق وارتفعت بنسبة 251٪ خلال العام الماضي وحده. وتتعرض الأسر في الوقت الحالي لضغوط اقتصادية غير مسبوقة في ظل جائحة جائحة كورونا العالمية.
ولا يستطيع أبو طارق إصلاح منزله حيث سيكلفه ذلك ملايين الليرات السورية في وقت لم يعد يستطيع فيه شراء الأغذية والدواء لأسرته، فقد ارتفعت أسعار مواد البناء بشكل كبير على مر السنوات ما يجعل عملية إعادة البناء طويلة وشاقة. علاوة على ذلك، لم يتمكن أبو طارق من العثور على عمل، فأصبح الآن عاملًا مؤقتًا قد تمر عليه عشرة أيام دون الحصول على دخل.
يقول أبو طارق: "إننا نواجه الآن تهديدًا آخر يدعى فيروس كورونا: كما لو أننا لم يكن لدينا ما يكفي من المشكلات التي نعاني منها.. هذا القاتل الخفي الصامت هو التحدي الأكبر بالنسبة لي الآن. ويجب عليَّ أن أحمي أسرتي منه. وليس بمقدوري المجازفة - فأنا بحاجة إلى الابتعاد عن الناس، وفي الوقت ذاته علي أن ألبي احتياجاتي."
أصبحت المساعدات الغذائية المنقذة للحياة التي يمكن لبرنامج الأغذية العالمي تقديمها للأسر - مثل أسرة أبو طارق - في جميع أنحاء سوريا أكثر أهمية من أي وقت مضى. وبفضل الجهات المانحة، ومن بينها وزارة الخارجية الألمانية، ستتمكن الأسر الأشد ضعفًا واحتياجًا في البلاد من الحصول على الدعم في وقت تزداد فيه الاحتياجات أكثر من أي وقت مضى.